فصل: شبهة أخرى على الوحي المحمدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الرد على المقدمة الخامسة:

وهي استفادة العرب من رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، بالتقائهم بأهل الكتاب والسماع منهم، وبالتالي استفادة النبي من ذلك فيظهر تهافتها مما قدمناه في رد المقدمات السابقة، وأزيد فأقول، إن هاتين الرحلتين لم يكن لهما أثر يذكر في عقيدة القرشيين؛ لأن مقصدهم كان التجارة لا تلقي العلوم والمعارف من أهل الكتاب، وعلى كثرة تكرار الرحلتين لم نجد أحدا من أهل مكة صار يهوديّا أو نصرانيّا، ومن تنصر في غير مكة إنما هم قلة لا تكاد تذكر، فكيف يتأثر النبي بقوم في شيء هم أجهل الناس به.

.الرد على المقدمة السادسة:

وأما ما زعموه من أن خلوة النبي وتعبده في حراء وتأمله في الكون علويّه وسفليه، وأنه بتعبده وتفكره خيل إليه أنه النبي المنتظر، وأنه قد تمكن منه هذا التخيل حتى تراءى له أنه يوحى إليه، وأن الملك يلقنه فدعاوى باطلة، ومقدمة لا تؤدي إلى ما يريدون من نتيجة، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد ما كان يدور بخلده أنه نبي هذه الأمة المبعوث في آخر الزمان، وليس أدل على هذا من قول الحق تبارك وتعالى: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [سورة القصص: 86].
فهي صريحة في أن النبي ما كان يؤمّل ذلك، ولكن ألقى الله إليه بالكتاب رحمة من الله به، وبالناس كلهم، لا كسب له فيه بعلم، ولا عمل ولا رجاء ولا أمل، والنبوة ليست بالتمني ولا بالرياضات الروحية، ولو كانت تنال بذلك لنالها أمية بن أبي الصلت، وأمثاله ممن ترهبوا وتنسكوا، وجاهدوا في سبيل الوصول إليها، وأيضا فغاية التعبد والتفكر في الكون أن يصلا بصاحبه إلى الإيمان بوجود إله خالق مدبر قيوم عالم قادر أما أنهما يؤديان إلى كل هذه العقائد والتشريعات المتنوعة، والآداب والتوجيهات التي لم تكن تخطر على بال إنسان، فهذا أمر غير معهود في سنة الكون ومجرى العادة.
وبعد هذا المطاف تبين لك أيها القارئ الحصيف أن المقدمات التي أرادوا أن يرتبوا عليها فكرة الوحي النفسي مقدمات فاسدة غير مسلمة ودعاوى باطلة، لا حقائق تاريخية ثابتة، وإذا بطلت المقدمات، بطل لزوم النتيجة لها ببداهة العقل، وما مثلهم إلا كمثل من أراد أن يبني بيتا من خيوط العنكبوت: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: 41].

.رد عام لفكرة الوحي النفسي:

إن فكرة الوحي النفسي كما صوروه مبنية على وجود معلومات وأفكار مدخرة في العقل الباطن وأنها تظهر في صورة رؤى ثم تقوى فيخيل لصاحبها أنها حقائق خارجية، فهل كان الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء بعقائده وتشريعاته في العبادات والمعاملات، والحدود والجنائيات، والاقتصاد والسياسة، والأخلاق والآداب، وأحوال السلم والحرب مركوزا ومدخرا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما تنكره العقول بداهة؛ لأن ما جاء به النبي في العقائد يعتبر مناقضا لكل ما كان سائدا في العالم حينئذ من عقائد كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث والصلب، وإنكار البعث واليوم الآخر، وكذلك جاء النبي بتشريعات ما عرفت في الشرائع السابقة سماوية وغير سماوية، واشتمل القرآن على أسرار في الكون، والآفاق والأنفس ما كانت تخطر على بال بشر قط، ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم المعارف في العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبي صلى الله عليه وسلم وهي لم تخطر له على بال.
وأيضا فإن الوحي بعد نزول صدر سورة اقرأ على النبي وهو يتعبد بغار حراء قد انقطع مدة من الزمان، لم ينزل فيها قرآن، فكيف سكت النبي طوال هذه المدة، وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف، والوجدان الملتهب، والنفس المتوثبة للإصلاح أخبرونا يا أصحاب العقول.
ثم إن العقل الباطن على ما يقول علماء النفس، إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام، الأمراض، كالحمى مثلا، وفي الظروف غير العادية، والقرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليقظة، وفي اكتمال من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيء في الرؤى والأحلام، وهكذا نرى أن ما استندوا إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم بل ترد عليهم.
وبعد: فلعلك أيقنت أن ما ذهبوا إليه من فكرة الوحي النفسي إنما قصدوا بها إبطال الوحي المحمدي، ولكن يأبى الله والراسخون في العلم ذلك، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [سورة التوبة: 32].

.قصة جان دارك:

إن تمثيلهم الوحي المحمدي بما زعمته جان دارك الفرنسية من أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، وأنها سمعت صوت الوحي يأمرها بذلك تجن على الرسالة المحمدية، والوحي المحمدي، وأين الحصا من نجوم السماء، بل أين السراب من زلال الماء إن (جاك دارك) لم تدّع النبوة، ولو أنها ادعتها لما صدّقت؛ لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل، وهي المعجزة، وأين ما ظهر على يدها من معجزات وإنما هي فتاة قوية القلب، مرهفة الحس، أهاج وجدانها، وحركه ما كانت تتصف به من شعور ديني كريم، وما كان يعانيه قومها من ذل وعبودية، لقد تلاقى شعورها الديني، وشعورها السياسي، فاستنهضت قومها للجهاد، وقادتهم إلى التخلص من الاستعباد، وقد صادفت دعوتها هوى في نفوس قومها، فأجابوها وخرجوا معها، وكان لهم النصر على العدو، وكونها استغلت مزاعمها في إثارة النفوس وإلهاب الحماس لا يقتضي أنها صادقة فيما زعمت، وما أسهل تهييج حماس أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات، وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته عند الأهرام، فهي لم تزد عن كونها امرأة شجاعة متدينة، امتلأ قلبها بحب بلادها، ورغبتها في تخليصها من عدوها فقادت جيشا قوامه عشرة آلاف جندي وضابط، وانتصروا على الإنجليز.
وإليك ما ذكره البستاني عنها في (دائرة معارفه) قال: كانت متعودة الشغل خارج البيت كرعي المواشي، وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس في جوار (دومري)- يعني بلدها- متمسكين بالخرافات، ويميلون إلى حزب (أوليان) في الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا، وكانت (جان) تشترك في الهياج السياسي والحماس الديني، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل في قصص العذراء، وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت، وهي أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها ثلاث عشرة سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية، وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها، ورؤى كان تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها، وتتوج ملكها، ثم أدفع (البرغنيور) تعديا على القرية التي ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيّل لها.
وكان انتصارها سنة (1429 م) ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت في السنة التالية (1430 م) فانكسرت وجرحت وأسرت.
وهكذا يتبين لنا مما ذكره أن دعوتها شبيهة بدعوات من زعم أنه المهدي المنتظر، ودعوة الباب الإيراني، وكذا البهاء والقادياني، وأمثالهم ممن زعموا أنهم يوحى إليهم، ووجدوا من يغتر بدعواتهم، فأين هذه النوبة العصبية القصيرة الأجل المعروفة السبب، والتي لا دعوة فيها إلى دين وعلم ولا إصلاح اجتماعي أو أخلاقي، والتي لم تلبث أن أفل نجمها، وغربت شمسها، أين هذه الدعوة من دعوة الأنبياء ولاسيما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة التي قامت في بيئة هي أبعد ما تكون عن العلم والمعرفة وأقوى ما تكون عنادا وصلابة وعنجهية، والتي تعرضت لتكالب جيوش الشر والغدر، والحقد والعصبية من العرب والرومان والفرس، فإذا بها تصرعهم جميعا، وتهزمهم في عقر دارهم، وتتمخض عن ميلاد أمة هي خير أمة أخرجت
للناس عقيدة وشريعة، وعلما وعملا، وأخلاقا وفضائل، وعدلا ورحمة، وسياسة وقيادة، أما جان دارك، فلم تصنع بدعوتها أمة، ولم تقم بها حضارة.
بل أين حال هذه الفتاة التي كانت كبارقة أو مضت ثم اختفت، وشمعة أضاءت ثم لم تلبث أن خفتت، وثورة قدر سرعان ما زالت من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت فأضاءت الأرجاء، وسطعت فبددت الظلمات، ظلمات الشرك والجهل والفقر والخرافات، ولا يزال نورها- ولن يزال- متألق السناء، إلا ما أبعد الفرق بين الحالين، وفرق ما بينهما كفرق ما بين الأرض والسماء.

.شبهة أخرى على الوحي المحمدي:

لقد أسفّ بعض المستشرقين والمبشرين فزعموا أن الحالة التي كانت تعتري النبي صلى الله عليه وسلم عند تلقي الوحي من جبريل، وهو على حالته الملكية، وهي الحالة التي كان النبي يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويسمع له غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه، هي حالة صرع تتمخض عما يخبر به أنه وحي.
وإليك رد هذه الفرية لترى أنهم طعنوا في غير مطعن، وطاروا في غير مطار.
1- إن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء كان أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة الثقات تدل على البطولة الجسمانية، وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة، وقد شهد للنبي رجل غريب عن الإسلام ولكنه منصف قال الكاتب الأجنبي (بودلي) في كتابه (الرسول حياة محمد) مفنّدا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبل وفاته بأسبوع واحد، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد).
2- إن مريض الصرع يصاب بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات فلو كان ما يعتري النبي صلى الله عليه وسلم عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.
لقد فتر الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء وبقي محزون النفس من هذه الحالة حتى سري عنه ربه بوصل ما انفصم من الوحي.
3- إن الوحي لم يكن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال التي قالوا عنها إنها صرع إلا أحيانا وأحيانا كان يأتيه وهو في حالته الطبيعية فلا غيبوبة ولا قلق ولا غطيط، وذلك حينما كان يأتيه جبريل في صورة رجل، وكان الجالسون لا يعرفون أنه جبريل، ولكن النبي كان يعلم ذلك حق العلم وذلك كما حدث في الحديث الطويل الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما والذي يعتبر سجلا جامعا لأصول الإيمان والإسلام والإحسان.
ويدل على حالتي الوحي هاتين الحديث الذي رواه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
4- إن الثابت علميّا أن المصروع حالة الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تامّا، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه كما أنه يغيب عن صوابه، وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور ويصبح المريض بلا إحساس.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد الوحي يتلو على الناس آيات بينات، وتشريعات محكمات، وعظات بليغات، وأخلاقا عظيمة، وكلاما بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة تحدى به الناس قاطبة- عربهم وعجمهم- أن يأتوا بأقصر سورة منه فما استطاعوا فهل يعقل من المصروع أن يأتي بشيء من هذا اللهم إن هذا أمر لا يجوز إلا في عقول المجانين إن كانت لهم عقول.
5- لما تقدمت وسائل الطب، واستخدمت الأجهزة والكهرباء في التشخيص والعلاج، إذا الطب يضيف دليلا لا ينقض، ويقيم حجة لا تحتاج إلى مناقشة على كذب فرية الصرع، ويؤكد أن ما كان يعتري رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر.
لقد ثبت أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ والدليل على ذلك أنه أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ في أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي، وعلى أية صورة كانت هذه النوبات ومهما ضعفت حدة هذه النوبات ولقد أثبت الطب الحديث أخيرا بعد الاستعانة بالأجهزة، والرسم الكهربائي أن هناك مظاهر عديدة، ومختلفة للنوبات الصرعية، وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية، وطريقة وسرعة انتشارها، وأهم أنواع الصرع ما يسمى بالنوبات الصرعية النفسية، وهو ما يشبه أن يكون النوع الذي افتراه الخصوم على الرسول بأنه مصاب به، وفي هذه الحالة تمر بذهن المريض ذكريات أو أحلام مرئية أو سمعية أو الاثنان معا وتسمى بالهلاوس، وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لابد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما؛ إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيّا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلّط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس الهلاوس التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو الهلاوس فهذا مريض يسمع أغنية، أو قطعة من شعر، أو حديثا من أيّ نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولابد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته، أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لابد أن يكون قد مر عليه.
وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته، فهي آيات واردة على لسان الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعمر البشر الأرض مثل قوله سبحانه: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ * وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة: 34- 25].
وآيات أخرى فيها قول الله يوم القيامة مثل: {حَتَّى إِذا جَاءُوا قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] وقوله سبحانه: {قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
وكذلك الآيات التي تحكي عصور ما قبل الإسلام، والمقاولات والمحاورات التي جرت بين أقوام عاشوا قبل الرسول بآلاف السنين وذلك مثل قوله سبحانه وتعالى: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} [آل عمران: 37] وقوله سبحانه: {قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ * قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} [المائدة: 24- 25] إلى غير ذلك من الآيات التي تحكي قصص الأولين، أو تصف أحوال القيامة واليوم الآخر، ولما كانت هذه الأحاديث والأحوال لم تمر بالرسول قطعا فهي لم تختزن بالتالي في المخ لتثيرها نوبات صرعية فيتذكرها، وبذلك يقرر الطب الحديث في أحدث اكتشافاته بالنسبة للصرع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون هناك أدنى شبهة في إصابته بالصرع إطلاقا، وأن ما كان يعتريه إنما هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه وتعالى، هذا الوحي الذي أخبره الله فيه عما مضى، وعما يستقبل.
6- ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان في أنهم لا ينالون من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحي بها من عند الله سبحانه فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاءات ونبوءات وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى عليهما السلام ما يقولون في وحي نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن هذا الطعن لا يفوه به إلا أحد رجلين: إما رجل مخرّف، وإما رجل مخرّب مدمر يريد هدم الأديان.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل في باب الوحي، وإنه أوحي إليه كما أوحي إليهم وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [النساء: 163- 164].
وقال: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 51- 53].